الحديث ٢٦
وجوب سؤال الإمام عن القرآن، وجواز سؤاله عن التوراة والإنجيل
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُكْبَرِيُّ [ت٤١٣هـ] فِي «الْإِرْشَادِ»[١]، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ سَعْدٍ الْكِنَانِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ:
لَمَّا بُويِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْخِلَافَةِ، خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ مُعْتَمًّا بِعِمَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَابِسًا بُرْدَيْهِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَأَنْذَرَ، ثُمَّ جَلَسَ مُتَمَكِّنًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَهَا أَسْفَلَ سُرَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، سَلُونِي، فَإِنَّ عِنْدِي عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ ثُنِيَ لِيَ الْوَسَادُ، لَحَكَمْتُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِهِمْ، حَتَّى يَزْهَرَ[٢] كُلُّ كِتَابٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَيَقُولَ: <يَا رَبِّ، إِنَّ عَلِيًّا قَضَى بِقَضَائِكَ>، وَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ مِنْ كُلِّ مُدَّعٍ عِلْمَهُ، وَلَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، ثُمَّ قَالَ: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْ آيَةٍ آيَةٍ، لَأَخْبَرْتُكُمْ بِوَقْتِ نُزُولِهَا وَفِيمَ نَزَلَتْ، وَأَنْبَأْتُكُمْ بِنَاسِخِهَا مِنْ مَنْسُوخِهَا، وَخَاصِّهَا مِنْ عَامِّهَا، وَمُحْكَمِهَا مِنْ مُتَشَابِهِهَا، وَمَكِّيِّهَا مِنْ مَدَنِيِّهَا، وَاللَّهِ مَا فِئَةٌ تُضِلُّ أَوْ تَهْدِي إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُ قَائِدَهَا وَسَائِقَهَا وَنَاعِقَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
الشاهد ١
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «التَّوْحِيدِ»[٣]، وَ«الْأَمَالِي»[٤]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى الدَّقَّاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ السِّنَانِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ الْكِنَانِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: لَمَّا جَلَسَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْخِلَافَةِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ مُتَعَمِّمًا بِعِمَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لَابِسًا بُرْدَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، مُنْتَعِلًا نَعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، مُتَقَلِّدًا سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَوَضَعَهَا أَسْفَلَ بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، هَذَا سَفَطُ الْعِلْمِ[٥]، هَذَا لِعَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، هَذَا مَا زَقَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَقًّا زَقًّا[٦]، سَلُونِي، فَإِنَّ عِنْدِي عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ ثُنِيَتْ لِي وَسَادَةٌ، فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، لَأَفْتَيْتُ أَهْلَ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ حَتَّى تَنْطِقَ التَّوْرَاةُ فَتَقُولَ: <صَدَقَ عَلِيٌّ مَا كَذَبَ، لَقَدْ أَفْتَاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ>، وَأَفْتَيْتُ أَهْلَ الْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ حَتَّى تَنْطِقَ الْإِنْجِيلُ فَيَقُولَ: <صَدَقَ عَلِيٌّ مَا كَذَبَ، لَقَدْ أَفْتَاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ>، وَأَفْتَيْتُ أَهْلَ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِهِمْ حَتَّى يَنْطِقَ الْقُرْآنُ فَيَقُولَ: <صَدَقَ عَلِيٌّ مَا كَذَبَ، لَقَدْ أَفْتَاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ>، وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْقُرْآنَ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَهَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ يَعْلَمُ مَا نَزَلَ فِيهِ -يَعْنِي كُلَّهُ-؟ وَلَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[٧]»، ثُمَّ قَالَ: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْ آيَةٍ آيَةٍ، فِي لَيْلٍ أُنْزِلَتْ أَوْ فِي نَهَارٍ، مَكِّيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا، وَسَفَرِيِّهَا وَحَضَرِيِّهَا، وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، وَمُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، وَتَأْوِيلِهَا وَتَنْزِيلِهَا، لَأَخْبَرْتُكُمْ»، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذِعْلِبٌ، وَكَانَ ذَرِبَ اللِّسَانِ[٨]، بَلِيغًا فِي الْخُطَبِ، شُجَاعَ الْقَلْبِ، فَقَالَ: لَقَدِ ارْتَقَى ابْنُ أَبِي طَالِبٍ مِرْقَاةً صَعْبَةً، لَأُخْجِلَنَّهُ الْيَوْمَ لَكُمْ فِي مَسْأَلَتِي إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: «وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، لَمْ أَكُنْ بِالَّذِي أَعْبُدُ رَبًّا لَمْ أَرَهُ»، قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ صِفْهُ لَنَا، قَالَ: «وَيْلَكَ، لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ، وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، إِنَّ رَبِّي لَا يُوصَفُ بِالْبُعْدِ، وَلَا بِالْحَرَكَةِ، وَلَا بِالسُّكُونِ، وَلَا بِقِيَامٍ -قِيَامِ انْتِصَابٍ- وَلَا بِجِيئَةٍ، وَلَا بِذَهَابٍ، لَطِيفُ اللَّطَافَةِ، لَا يُوصَفُ بِاللُّطْفِ[٩]، عَظِيمُ الْعَظَمَةِ، لَا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ، كَبِيرُ الْكِبْرِيَاءِ، لَا يُوصَفُ بِالْكِبَرِ، جَلِيلُ الْجَلَالَةِ، لَا يُوصَفُ بِالْغِلَظِ، رَؤُوفُ الرَّحْمَةِ، لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ، مُؤمِنٌ لَا بِعِبَادَةٍ[١٠]، مُدْرِكٌ لَا بِمَجَسَّةٍ[١١]، قَائِلٌ لَا بِلَفْظٍ[١٢]، هُوَ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى غَيْرِ مُمَازَجَةٍ، خَارِجٌ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ مُبَايَنَةٍ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُقَالُ شَيْءٌ فَوْقَهُ، أَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُقَالُ لَهُ أَمَامٌ، دَاخِلٌ فِي الْأَشْيَاءِ لَا كَشَيْءٍ فِي شَيْءٍ دَاخِلٍ، وَخَارِجٌ مِنْهَا لَا كَشَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ»[١٣]، فَخَرَّ ذِعْلِبٌ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ، وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهَا.
الشاهد ٢
وَرُوِيَ فِي كِتَابِ «الْإِخْتِصَاصِ»[١٤] الْمَنْسُوبِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُكْبَرِيِّ [ت٤١٣هـ]، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ بَسَّامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ سَعْدٍ الْكِنَانِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ مِثْلُهُ.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: سَعْدُ بْنُ طَرِيفٍ الْكِنَانِيُّ مِنْ ثِقَاتِ الشِّيعَةِ، فَقَدْ قَالَ الطُّوسِيُّ [ت٤٦٠هـ]: «هُوَ صَحِيحُ الْحَدِيثِ»[١٥]، وَكَذَلِكَ أَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَقَدْ رُوِي أَنَّ عَلِيًّا دَعَا كَاتِبَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ، فَقَالَ لَهُ: «أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً مِنْ ثِقَاتِي»، فَقَالَ: سَمِّهِمْ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: «أَدْخِلْ أَصْبَغَ بْنَ نُبَاتَةَ، وَأَبَا الطُّفَيْلِ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ الْكِنَانِيَّ، وَزِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ الْأَسَدِيَّ، وَجُوَيْرِيَةَ بْنَ مُسْهِرٍ الْعَبْدِيَّ، وَخِنْدِفَ بْنَ زُهَيْرٍ الْأَسَدِيَّ، وَالْحَارِثَ بْنَ مُضَرِّبٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَالْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرَ الْهَمْدَانِيَّ، وَمَصَابِيحَ النَّخَعِ: عَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، وَكُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، وَعُمَيْرَ بْنَ زُرَارَةَ»[١٦]، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ، فَقَدْ رَوَى مِثْلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عُمَرَ زَاذَانُ، وَقَالَ ابْنُ شَهْرآشُوبَ [ت٥٨٨هـ] فِي «مَنَاقِبِ آلِ أَبِي طَالِبٍ»: «رَوَى ابْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ مِنْ سِتَّةِ طُرُقٍ، وَابْنُ الْمُفَضَّلِ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، وَإِبْرَاهِيمُ الثَّقَفِيُّ مِنْ أَرْبَعَةِ عَشَرَ طَرِيقًا، مِنْهُمُ الْأَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَيَحْيَى بْنُ أُمِّ الطَّوِيلِ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَعَبَايَةُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَعَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ: <كَنِيفٌ مُلِئَ عِلْمًا لَوْ وَجَدْتُ لَهُ طَالِبًا، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، هَذَا سَفَطُ الْعِلْمِ، هَذَا لِعَابُ رَسُولِ اللَّهِ، هَذَا مَا زَقَّنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ زَقًّا، فَاسْأَلُونِي، فَإِنَّ عِنْدِي عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الْوَسَادَةُ ثُمَّ أُجْلِسْتُ عَلَيْهَا، لَحَكَمْتُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْفُرْقَانِ بِفُرْقَانِهِمْ، حَتَّى يُنَادِيَ كُلُّ كِتَابٍ بِأَنَّ عَلِيًّا حَكَمَ بِحُكْمِ اللَّهِ فِيَّ>، ثُمَّ قَالَ: <سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْ آيَةٍ آيَةٍ، فِي لَيْلَةٍ أُنْزِلَتْ أَوْ فِي نَهَارٍ، مَكِّيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا، وَسَفَرِيِّهَا وَحَضَرِيِّهَا، وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، وَمُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، وَتَأْوِيلِهَا وَتَنْزِيلِهَا، لَأَخْبَرْتُكُمْ>»[١٧]. هَكَذَا عَالِمُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمِثْلُهُ فَلْيُسْئَلْ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا تَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَى عَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْقُرْآنِ[١٨]، وَهَذَا جَهْلٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِمَا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ مِنْ تَوْرَاتِهِمْ وَإِنْجِيلِهِمْ، وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا فِيهِمَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا صَحَّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ زَنَى بِامْرَأَةٍ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ بُعِثَ بِتَخْفِيفٍ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا تَرَى فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَّا زَنَيَا وَقَدْ أُحْصِنَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى أَتَى بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ، فَقَامَ لَهُمْ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: «أُشْهِدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَا إِذَا أُحْصِنَ؟»، فَكَتَمُوا وَكَذَبُوا، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ»، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا[١٩]، فَيُقَالُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾[٢٠]، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، وَكَانَ عَلِيٌّ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ.
الشاهد ٣
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «أَمَالِيهِ»[٢١]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الْكَمَنْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيِّ، عَنْ عَبْدٍ السَّمِينِ، وَهُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ الْأَزْدِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَضَى، وَلَا عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ»، فَقَامَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي كَمْ فِي رَأْسِي وَلِحْيَتِي مِنْ شَعْرَةٍ؟! فَقَالَ لَهُ: «أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ مَسْأَلَةٍ حَدَّثَنِي خَلِيلِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّكَ سَتَسْأَلُنِي عَنْهَا، وَمَا فِي رَأْسِكَ وَلِحْيَتِكَ مِنْ شَعْرَةٍ إِلَّا وَفِي أَصْلِهَا شَيْطَانٌ جَالِسٌ، وَإِنَّ فِي بَيْتِكَ لَسَخْلًا[٢٢] يَقْتُلُ الْحُسَيْنَ ابْنِي»، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ يَوْمَئِذٍ يَدْرُجُ بَيْنَ يَدَيْهِ[٢٣].
الشاهد ٤
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ [ت٣٦٧هـ] فِي «كَامِلِ الزِّيَارَاتِ»[٢٤]، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدٍ السَّمِينِ، يَرْفَعُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
الشاهد ٥
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُكْبَرِيُّ [ت٤١٣هـ] فِي «الْإِرْشَادِ»[٢٥]، قَالَ: رَوَى زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ مَشْيَخَتَنَا وَعُلَمَاءَنَا يَقُولُونَ: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَكَذَا رَوَوْهُ، وَهُوَ عِنْدِي وَهْمٌ، فَقَدْ وُلِدَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي سُلْطَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [ت٢٣هـ]؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْثٍ بَعَثَهُ عُمَرُ إِلَى الْجَزِيرَةِ فِي سَنَةِ تِسْعِ عَشْرَةَ، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ، لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ[٢٦]، وَأَنَّهُ أَشْعَلَ النَّارَ فِي دَارِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِأَمْرِ عُثْمَانَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ يَسْعَى[٢٧]، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ [ت٢٣٣هـ] أَنَّهُ وُلِدَ عَامَ مَاتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ[٢٨]، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَخْلًا يَدْرُجُ حِينَ خَطَبَ عَلِيٌّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ، بَلْ كَانَ رَجُلًا، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ [ت٦٥٦هـ] فِي «شَرْحِ نَهْجِ الْبَلَاغَةِ»، قَالَ: «رَوَى ابْنُ هِلَالٍ الثَّقَفِيُّ فِي كِتَابِ الْغَارَاتِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْعَطَّارِ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: <سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ فِئَةٍ تُضِلُّ مِائَةً وَتَهْدِي مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَسَائِقِهَا>، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فِي رَأْسِي وَلِحْيَتِي مِنْ طَاقَةِ شَعْرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: <وَاللَّهِ لَقَدْ حَدَّثَنِي خَلِيلِي أَنَّ عَلَى كُلِّ طَاقَةِ شَعْرٍ مِنْ رَأْسِكَ مَلَكًا يَلْعَنُكَ، وَأَنَّ عَلَى كُلِّ طَاقَةِ شَعْرٍ مِنْ لِحْيَتِكَ شَيْطَانًا يُغْوِيكَ، وَأَنَّ فِي بَيْتِكَ سَخْلًا يَقْتُلُ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ>، وَكَانَ ابْنُهُ قَاتِلُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَئِذٍ طِفْلًا يَحْبُو، وَهُوَ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ النَّخَعِيُّ»[٢٩].