الحديث ٤٩
كراهية التعمّق في الدّين
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ [ت٢٣٥هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»، قَالَهَا ثَلَاثًا.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُتَنَطِّعُونَ الْمُتَعَمِّقُونَ فِي الدِّينِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُفْرِطُونَ فِي النَّظَرِ أَوْ فِي الْعَمَلِ، وَقَدْ هَلَكُوا بِبِدْعَتِهِمْ، وَإِنْ أَرَادُوا خَيْرًا.
الشاهد ١
رَوَى وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ [ت١٩٧هـ] فِي «الزُّهْدِ»[٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَعَمِّقُونَ».
الشاهد ٢
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ [ت٢١١هـ] فِي «مُصَنَّفِهِ»[٣]، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ -أَوْ قَالَ: فَلَمْ يَتَكَلَّمُوا- فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ: نَذَرُوا أَوْ حَلَفُوا أَلَا يَتَكَلَّمُوا الْيَوْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَعَمِّقُونَ»، يَعْنِي الْمُتَنَطِّعِينَ، قَالَهَا مَرَّتَيْنِ.
الشاهد ٣
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[٤]، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعْنَى، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ خَلْفَهُ، وَجَاءَ رَجُلٌ فَقَامَ إِلَى جَنْبِي، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ حَتَّى كُنَّا رَهْطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّا خَلْفَهُ تَجَوَّزَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَصَلَّى صَلَاةً لَمْ يُصَلِّهَا عِنْدَنَا، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَطِنْتَ بِنَا اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَذَاكَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الَّذِي صَنَعْتُ»، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يُوَاصِلُ، وَذَاكَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَأَخَذَ رِجَالٌ يُوَاصِلُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ رِجَالٍ يُوَاصِلُونَ؟! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ مُدَّ لِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ»!
الشاهد ٤
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْخُرَاسَانِيُّ [ت٢٢٧هـ] فِي «سُنَنِهِ»[٥]، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: انْطَلَقَ بِي أَنَسٌ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَفَرَضَ لَنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِفَجِّ النَّاقَةِ، صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَدَخَلَ فُسْطَاطَهُ، فَقَامَ الْقَوْمُ فَصَلُّوا إِلَى رَكْعَتَيْهِ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ، فَقَالَ لِابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟! قَالَ: يُضِيفُونَ إِلَى رَكْعَتَيْكَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ أَنَسٌ: قَبَّحَ اللَّهُ الْوُجُوهَ! وَاللَّهِ مَا أَصَابَتِ السُّنَّةَ، وَلَا قَبِلَتِ الرُّخْصَةَ! إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ قَوْمًا يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مِنَ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي الدِّينِ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيُخَالِفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُتَأَوِّلِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَمِنْ جَهَالَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَصَرَهَا، مُتَأَوِّلِينَ لِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾[٦]، فَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى خِلَافِ مَا تَأَوَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ عَلَى الْغَالِبِ، أَوْ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَجْرِفِينَ.
الشاهد ٥
وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْصَارِيُّ [ت١٨٠هـ] فِي «حَدِيثِهِ»[٧]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: جِئْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ هَذِهِ الْخَوَارِجَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَوْمًا يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ عِنْدَ صَلَاتِهِ، وَصَوْمَهُ عِنْدَ صَوْمِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».
الشاهد ٦
وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ [ت٢١٣هـ] فِي «سِيرَتِهِ»[٨]، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ مِقْسَمِ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللَّيْثِيُّ، حَتَّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، مُعَلِّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ، فَقُلْنَا لَهُ: هَلْ حَضَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَلَّمَهُ التَّمِيمِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، يُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ، فَكَيْفَ رَأَيْتَ؟» فَقَالَ: لَمْ أَرَكَ عَدَلْتَ! فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «وَيْحَكَ! إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْلُ عِنْدِي، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ؟!» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ: «لَا، دَعْهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي النَّصْلِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْقِدْحِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْفُوقِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ». قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو جَعْفَرٍ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَسَمَّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مِنَ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي الدِّينِ إِخْوَانُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ: «مَا بَالُهُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟!» وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَعْتَرِضَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ طَاعَتَهُ، يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: «لَقَدْ أَصَبْتُ فِي الْإِسْلَامِ هَفْوَةً مَا هَفَوْتُ مِثْلَهَا قَطُّ! لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ، فَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ، وَجَذَبْتُهُ، وَقُلْتُ: مَا ذَاكَ لَكَ! أَلَيْسَ اللَّهُ قَدْ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟! فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ! فَقَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، قَالَ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾[٩]، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ»، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: «عَجَبٌ لِي وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ»![١٠]
الشاهد ٧
وَرَوَى الدَّارَمِيُّ [ت٢٥٥هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[١١]، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيَّ مَعْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِتَابًا، فَحَلَفَ لِي بِاللَّهِ أَنَّهُ خَطُّ أَبِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ عَلَى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ».
الشاهد ٨
وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ [ت٣١١هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[١٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، وَمُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثٍ: «عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ».
الشاهد ٩
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ [ت٢٥٦هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[١٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا».
الشاهد ١٠
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ [ت٤٣٠هـ] فِي «أَخْبَارِ أَصْبَهَانَ»[١٤]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ، عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، عَنْ أَبَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، فَإِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ».
الشاهد ١١
وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ [ت٢٣٨هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[١٥]، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا».
الشاهد ١٢
وَرَوَى آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ [ت٢٢١هـ] فِي «جُزْءٍ لَهُ»[١٦]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ مُشْكِلٍ حَرَامٌ، وَلَيْسَ فِي الدِّينِ إِشْكَالٌ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْكِلُ مَا فِيهِ خَفَاءٌ عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ مُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ، وَالْمُرَادُ بِحُرْمَتِهِ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَحْتَجُّ عَلَى النَّاسِ بِالْبَيِّنَاتِ، وَلَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْغَوَامِضِ، وَهَذَا يُخْرِجُ مِنَ الدِّينِ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَدْ خَاضَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالْمُصْطَلَحَاتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا أَهْلُ الْمَنْطِقِ وَالْأُصُولِ، وَمَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَنْذَرَ مِنْهَا، فَقَالَ: «أَنْذَرْتُكُمْ صِعَابَ الْمَنْطِقِ»[١٧]، وَمِصْدَاقُهَا هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الدَّقِيقَةُ وَالْمُصْطَلَحَاتُ الْغَرِيبَةُ الَّتِي يَصْعُبُ عَلَى النَّاسِ فَهْمُهَا كَخَرْطِ الْقَتَادِ.
الشاهد ١٣
رَوَى الْآجُرِيُّ [ت٣٦٠هـ] فِي «أَخْلَاقِ الْعُلَمَاءِ»[١٨]، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ يَعْنِي الدِّمَشْقِيَّ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْأَشْعَثِ، يُحَدِّثُ عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَيَكُونُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي، يَتَعَاطَى فُقَهَاؤُهُمْ عُضَلَ الْمَسَائِلِ، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي»[١٩].
الشاهد ١٤
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «التَّوْحِيدِ»[٢٠]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ، عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْلَى الْكُوفِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ، قَالَ: «مَا صَنَعْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْ غَرَائِبِهِ؟!» قَالَ الرَّجُلُ: مَا رَأْسُ الْعِلْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَعْرِفَةُ اللَّهِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ»، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ؟ قَالَ: «تَعْرِفُهُ بِلَا مِثْلٍ وَلَا شِبْهٍ وَلَا نِدٍّ، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ، ظَاهِرٌ بَاطِنٌ، أَوَّلٌ آخِرٌ، لَا كُفْوَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، فَذَلِكَ حَقُّ مَعْرِفَتِهِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمِسْوَرِ الْمَدَائِنِيِّ، وَقَدِ اتَّهَمُوهُ بِوَضْعِهِ، وَهَذَا طَرِيقٌ آخَرُ يُبْرِئُهُ مِنْ عُهْدَتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيهِ ذَمُّ الطَّلَبِ لِلْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ.
الشاهد ١٥
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ [ت٢٥٦هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[٢١]، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: «نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ».
الشاهد ١٦
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ [ت٢٢٧هـ] فِي «سُنَنِهِ»[٢٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «الْأُغْلُوطَةُ» مَا يُغَالَطُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: «هِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ وَصِعَابُهَا»[٢٣]، وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ: «هِيَ مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ كَيْفَ وَكَيْفَ»[٢٤]، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: «هِيَ أَنْ يُعْتَرَضَ الْعُلَمَاءُ بِصِعَابِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الْغَلَطُ، لِيُسْتَزَلُّوا بِهَا، وَيُسْتَسْقَطَ رَأْيُهُمْ فِيهَا»[٢٥].
ثُمَّ قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْمُتَنَطِّعِينَ، أَصْحَابِ الْأُغْلُوطَاتِ! فَقَدْ كَثُرُوا عَلَيْنَا كَثْرَةَ الذُّبَابِ، وَهُمُ الْمُتَعَمِّقُونَ فِي الْعَقَائِدِ بِالْعِرْفَانِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَفِي الْأَحْكَامِ بِالْقِيَاسِ وَالْإِسْتِحْسَانِ، وَفِي الْأَعْمَالِ بِالتَّشَدُّدِ وَالْإِبْتِدَاعِ، وَمِنْ عَلَامَاتِهِمْ كَثْرَةُ السُّؤَالِ، وَشَهْوَةُ الْجِدَالِ، وَعُقْدَةُ الْمَقَالِ[٢٦].